فصل: الإيضاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المراغي:

{إِنَّ يوم الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17)}

.شرح المفردات:

{يوم الفصل}: هو يوم القيامة، وسمى بذلك لأن اللّه يفصل فيه بحكمه بين الخلائق، {ميقاتا}: أي حدّا تنتهى عنده الدنيا، والصور في الأصل: البوق الذي ينفخ فيه فيحدث صوتا، وقد جرت عادة الناس إذا سمعوه أن يهرعوا إليه ويجتمعوا عند النافخ، والأفواج: واحدها فوج وهو الجماعة، و{فتحت السماء}: أي انشقت وتصدعت، و{سيرت الجبال}: أي زالت من أماكنها وتفتت صخورها، سرابا أي كالسراب، فهى بعد تفتتها ترى كأنها جبال وليست بجبال، بل غبارا متراكما، المرصاد: موضع يرتقب فيه خزنتها المستحقين لها، {للطاغين}: أي للذين طغوا في مخالفة ربهم ومعارضة أوامره، والمآب: المرجع، {لابثين}: أي مقيمين، {أحقابا}، واحدها حقب، وواحد الحقب حقبة: وهى مدة مبهمة من الزمان.
قال متمم ابن نويرة:
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل لن نتصدعا

فلما تفرّقنا كأنى ومالكا ** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

والبرد: برد الهواء، وقد يراد به النوم، ومن أمثالهم (منع البرد البرد) أي أصابه من شدة البرد ما منعه النوم، ولا شرابا: أي شرابا يسكن عطشهم ويزيل الحرقة عن بواطنهم، والحميم: الماء الحار المغلى، {غساقا}: أي قيحا وصديدا وعرقا دائم السيلان من أجسادهم، {وفاقا}: أي وفق أعمالهم السيئة، {لا يرجون}: أي لا يتوقعون {حسابا}: أي محاسبة على أعمالهم، أو ثواب حساب، {كذّابا}: أي تكذبنا، وقرئ بالتخفيف بمعنى كذبا، وعليه قول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها ** والمرء ينفعه كذابه

{كتابا}: أي إحصاء بالكتابة.

.المعنى الجملي:

بعد أن نبه عباده إلى هذه الظواهر الباهرة، ولفت أنظارهم إلى آياته القاهرة، أخذ يبين ما اختلفوا فيه ونازعوا في إمكان حصوله وهو يوم الفصل، ويذكر لهم بعض ما يكون فيه تخويفا لهم من الاستمرار على التكذيب بعد ما وضحت الأدلة واستبان الحق، ثم أبان لهم أن هذا يوم شأنه عظيم وأمر الكائنات فيه على غير ما تعهدون، ثم ذكر منزلة المكذبين الذين جحدوا آيات اللّه واتخذوها هزوا، وأن جهنم مرجعهم الذي ينتهون إليه، وأنهم سيقيمون فيها أحقابا طوالا لا يجدون شيئا من النعيم والراحة، ولا يذوقون فيها روحا ينفّس عنهم حر النار، ولا يذوقون من الشراب إلا الماء الحارّ والصديد الذي يسيل من أجسادهم، جزاء سيئ أعمالهم، إذ هم كانوا لا ينتظرون يوم الحساب، ومن ثم اقترفوا السيئات، وارتكبوا مختلف المعاصي، وكذبوا الدلائل التي أقامها اللّه على صدق رسوله أشد التكذيب، وقد أحصى اللّه كل شيء في كتاب علمه، فلم يغب عنه شيء صدر منهم، وسيوفيهم جزاء ما صنعوا، وستكون له كلمة الفصل، فيقول لهم: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً}.

.الإيضاح:

{إِنَّ يوم الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً} أي إن يوم القيامة وقت وميعاد للأولين والآخرين يثابون فيه أو يعاقبون، ويتمايزون فيه ويكونون مرات ودرجات بحسب أعمالهم كما قال: {وَامْتازُوا الْيوم أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}.
وقد جعله اللّه حدا تنتهى عنده الدنيا، وتجتمع فيه الخلائق، ليرى كل امرئ ما قدمت يداه، فيجازى المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته.
ثم بين هذا اليوم وزاد في تفخيمه وتهويله فقال: {يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً} أي يوم ينفخ في الصور فتحيون وتبعثون من قبوركم وتأتون إلى الموقف من غير تلبث، وأمام كل أمة رسولها كما قال سبحانه: {يوم نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بإمامهم}.
(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أي وانشقت السماء وتصدعت. وقد جاء نحو هذا في آيات كثيرة كقوله: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ}. وقوله: {إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ}.
وقوله: {يوم تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ}.
ذاك أنه يحصل اضطراب في نظام الكواكب، فيذهب التماسك بينها، ولا يكون فيما يسمى سماء إلا مسالك وأبواب، لا يلتقى فيها شيء بشيء، وذلك هو خراب العالم العلوي كما يخرب الكون السفلى.
{وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً} أي إن الجبال لا تكون في ذلك اليوم على ثباتها المعروف. بل يذهب ما كان لها من قرار وتعود كأنها سراب يرى من بعد.
فإذا قربت منه لم تجد شيئا. لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها.
والخلاصة- إنه سبحانه ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة. فذكر أول أحوالها وهو الاندكاك بقوله: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً} ثم ذكر أنها تصير كالعهن المنفوش كما قال: {وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}.
ثم ذكر أنها تصير هباء كما قال: {وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} ثم ذكر أنها تنسف وتحملها الرياح كما جاء في قوله: {وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ}، ثم ذكر أنها تصير سرابا، أي لا شيء كما في هذه الآية.
وبعد أن عدّد وجوه إحسانه، ودلائل قدرته على إرساله رسوله، وذكر أن يوم الفصل بين الرسول ومعانديه سيكون يوم القيامة، وبيّن أهوال هذا اليوم، وامتياز شئونه وأحواله عن شئون أيام الدنيا وأحوالها- ذكر وعيد المكذبين وبيان ما يلاقونه فقال: {إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً} أي إن دار العذاب وهى جهنم مكان يرتقب فيه خزنتها من يستحقها بسوء أعماله، وخبث عقيدته وفعاله.
وروى ابن جرير وابن المنذر عن الحسن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس.
{لِلطَّاغِينَ مَآباً} أي إنها مرجع للذين طغوا وتكبروا ولم يستمعوا إلى الداعي الذي جاءهم بالهدى ونور الحق.
وبعد أن ذكر أن جهنم مستقرهم بيّن مدة ذلك فقال: {لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} أي إنهم سيمكثون فيها دهورا متلاحقة يتبع بعضها بعضا فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر كما قال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ}.
ثم بين أحوالهم فيها فقال: {لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} أي لا يذقون في جهنم بردا يبرد حر السعير عنهم إلا الغساق، ولا شرابا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم، فهم لا يذوقون مع شدة الحرما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شرابا فيسكن عطشهم، ويزيل الحرقة من بواطنهم، ولكن يجدون الماء الحار المغلى، وما يسيل من جلودهم من الصديد والقيح والعرق، وسائر الرطوبات المستقذرة.
والخلاصة- إنهم لا يذوقون فيها شرابا إلا الحميم البالغ الغاية في السخونة، أو الصديد المنتن، ولا بردا إلا الماء الحار المغلى.
{جَزاءً وِفاقاً} أي إنه تعالى ينزل بهم شديد عقابه من جزاء أنهم أتوا بفظيع المعاصي، فيكون العقاب وفق الذنب ومقداره كما قال: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}.
قال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأتاهم اللّه ما يسوءهم.
وبعد أن بين على طريق الإجمال أن هذا الجزاء الذي أعد لهم كان وفق جرمهم- فصل أنواع جرائمهم فذكر أنها نوعان فقال:
(1) {إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً} أي إنهم فعلوا من القبائح ما فعلوا، واجترحوا من السيئات ما شاءت لهم أهواؤهم، لأنهم ما كانوا ينتظرون يوم الحساب ولا يتوقعونه.
ورغبة المرء في فعل الخيرات، وترك المحظورات، إنما تكون غالبا لاعتقاده أنه ينتفع بذلك في الآخرة، فمن كان منكرا لها لا يقدم على شيء مما يحسن عمله، ولا يحجم عن أمر مما يقبح.
(2) {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً} أي وكذبوا لجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد وبجميع ما جاء في القرآن.
والخلاصة- إنهم أقدموا على جميع المنكرات، ولم يرعووا عن فعل السيئات وأنكروا بقلوبهم الحق واتبعوا الباطل.
وبعد أن بين فساد أحوالهم العملية والاعتقادية- أرشد إلى أنها في مقدارها وكيفيتها معلومة له تعالى لا يغيب عنه شيء منها فقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً} أي إنا علمنا جميع ما عملوا علما ثابتا لا يعتريه تغيير ولا تحريف، فلا يمكنهم أن يجحدوا شيئا مما كانوا يصنعون في الحياة الدنيا حين يرون ما أعد لهم من أنواع العقوبات، لأنا قد أحصينا ما فعلوه إحصاء لا يزول منه شيء ولا يغيب، وإن غاب عن أذهانهم ونسوه كما قال: {أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}
وإنما قيل {كِتاباً} دون أن يقال (إحصاء) لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم بالشيء، فإن من يريد أن يحصى كلام متكلم حتى لا يغيب منه شيء عمد إلى كتابته، فكأنه تعالى يقول: {وكل شيء أحصيناه إحصاء يساوى في ثباته وضبطه ما يكتب}.
وبعد أن بين قبائح أفعالهم لكفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات- رتب عليه هذا الجزاء فقال: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً} أي فذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه كما قال: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ}.
روى قتادة عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً}.
ذاك أن فيها تقريعا وتوبيخا لهم في يوم الفصل، وغضبا من أرحم الراحمين، وتيئيسا لهم من الغفران. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ يوم الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)}
هذا بيان لما أجمله قوله: {عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون} [النبأ: 2 3] وهو المقصود من سياق الفاتحة التي افتتحت بها السورة وهيأتْ للانتقال مناسبة ذكر الإِخراج من قوله: {لنخرج به حبًّا ونباتاً} [النبأ: 15] الخ، لأن ذلك شُبه بإخراج أجساد الناس للبعث كما قال تعالى: {فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} إلى قوله: {كذلك الخروج} في سورة ق (9 11).
وهو استئناف بياني أعقب به قوله: {لنخرج به حبًّا ونباتاً} [النبأ: 15] الآية فيما قصد به من الإِيماء إلى دليل البعث.
وأكد الكلام بحرف التأكيد لأن فيه إبطالاً لإِنكار المشركين وتكذيبهم بيوم الفصل.
ويوم الفصل: يوم البعث للجزاء.
والفصل: التمييز بين الأشياء المختلطة، وشاع إطلاقه على التمييز بين المعاني المتشابهة والملتبسة فلذلك أطلق على الحكم، وقد يضاف إليه فيقال: فصل القضاء، أي نوع من الفصل لأن القضاء يميز الحق من الظلم.
فالجزاء على الأعمال فصل بين الناس بعضهم من بعض.
وأوثر التعبير عنه بيوم الفصل لإِثبات شيئين:
أحدهما: أنه بَيَّن ثبوت ما جحدوه من البعث والجزاء وذلك فصل بين الصدق وكذبهم.
وثانيهما: القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اعتدى به بعضهم على بعض.
وإقحام فعل {كان} لإِفادة أن توقيته متأصل في علم الله لِما اقتضته حكمته تعالى التي هو أعلم بها وأن استعجالهم به لا يقدّمه على ميقاته.
وتقدم {يوم الفصل} غير مرة أخراها في سورة المرسلات (14).
ووصف القرآن بالفصل يأتي في قوله تعالى: {إنه لقول فصل} في سورة الطارق (13).
والميقات: مفعال مشتق من الوقت، والوقت: الزمان المحدَّد في عمل ما، ولذلك لا يستعمل لفظ وقت إلا مقيداً بإضافة أو نحوها نحو وقت الصلاة.
فالميقات جاء على زنة اسم الآله وأريد به نفس الوقت المحدد به شيء مثل مِيعاد ومِيلاد، في الخروج عن كونه اسم آلة إلى جعله اسماً لنفس ما اشتق منه.
والسياق دل على متعلق ميقات، أي كان ميقاتاً للبعث والجزاء.
فكونه {ميقاتاً} كناية تلويحية عن تحقيق وقوعه إذ التوقيت لا يكون إلا بزمن محقق الوقوع ولو تأخر وأبطأ.
وهذا رد لسؤالهم تعجيله وعن سبب تأخيره، سؤالاً يريدون منه الاستهزاء بخبره.
والمعنى: أن ليس تأخر وقوعه دَالاَّ على انتفاء حصوله.
والمعنى: ليس تكذيبكم به مما يحملنا على تغيير إبانة المحدد له ولكن الله مستدرجكم مدة.
وفي هذا إنذار لهم بأنه لا يُدرَى لعله يحصل قريباً قال تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187] وقال: {قل عسى أن يَكون قريباً} [الإسراء: 51].
و{يوم ينفخ في الصور} بدل من {يوم الفصل}.
وأضيف {يوم} إلى جملة {ينفخ في الصور} فانتصب {يوم} على الظرفية وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى جملة أولها مُعرب وهو المضارع.
وفائدة هذا البدل حصول التفصيل لبعض أحوال الفصل وبعض أهوال يوم الفصل.
والصُّور: البوق، وهو قرنُ ثَور فارغ الوسط مضيق بعض فراغه ويتخذ من الخشب أو من النحاس، يَنفخ فيه النافخ فيخرج منه الصوت قوياً لنداء الناس إلى الاجتماع، وأكثر ما ينادى به الجيش والجموع المنتشرة لتجتمع إلى عمل يريده الآمر بالنفخ.
وبُني {ينفخ} إلى النائب لعدم تعلق الغرض بمعرفة النافخ وإنما الغرض معرفة هذا الحادث العظيم وصورة حصوله.
والنفخ في الصور يجوز أن يكون تمثيلاً لهيئة دعاء الناس وبعثهم إلى الحشر بهيئة جمع الجيش المتفرق لراحة أو تتبع عدوَ فلا يلبثون أن يتجمّعوا عند مقر أميرهم.
ويجوز أن يكون نفخٌ يحصل به الإِحياء لا تُعلم صفته فإن أحوال الآخرة ليست على أحوال الدنيا، فيكون النفخ هذا معبَّراً به عن أمر التكوين الخاص وهو تكوين الأجساد بعد بلاها وبَثّ أرواحها في بقاياها.
وقد ورد في الآثار أن المَلك الموكّل بهذا النفخ هو إسرافيل، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة.
وعطف {تأتون} بالفاء لإفادة تعقيب النفخ بمجيئهم إلى الحساب.
والإِتيان: الحضور بالمكان الذي يمْشي إليه الماشي فالإِتيان هو الحصول.
وحذف ما يحصل بين النفخ في الصور وبين حضورهم لزيادة الإِيذان بسرعة حصور الإِتيان حتّى كأنه يحصل عند النفخ في الصور وإن كان المعنى: ينفخ في الصور فتحيَوْن فتسيرون فتأتون.
و{أفواجاً} حال من ضمير {تأتون}، والأفواج: جمع فوج بفتح الفاء وسكون الواو، والفوج: الجماعة المتصاحبة من أناس مقسَّمين باختلاف الأغراض، فتكون الأمم أفواجاً، ويكون الصالحون وغيرهم أفواجاً قال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها} [الملك: 8] الآية.
والمعنى: فتأتون مقسَّمين طوائف وجماعات، وهذا التقسيم بحسب الأحوال كالمؤمنين والكافرين وكل أولئك أقسام ومراتب.
{وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)}
جملة هي حال من ضمير {تأتون} [النبأ: 18].
والتقدير: وقد فتحت السماء، أي قد حصل النفخ قبلَ ذلك أو معه.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {ينفخ في الصور} [النبأ: 18] فيعتبر {يوم} [النبأ: 18] مضافاً إلى هذه الجملة على حدّ قوله: {ويوم تَشَّقَّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25].
والتعبير بالفعل الماضي على هذا الوجه لتحقيق وقوع هذا التفتيح حتى كأنه قد مضى وقوعه.
وفتح السماء: انشقاقها بنزول الملائكة من بعض السماوات التي هي مقرّهم نزولاً يحضرون به لتنفيذ أمر الجزاء كما قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً الملك يومئذ الحق للرحمن} [الفرقان: 25، 26].
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {وفتحت} بتشديد الفوقية، وهو مبالغة في فعل الفَتح بكثرة الفتح أو شدته إشارة إلى أنه فتح عظيم لأن شق السماء لا يقدر عليه إلا الله.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلَف بتخفيف الفوقية على أصل الفعل ومجرد تعلق الفتح بالسماء مشعر بأنه فتح شديد.
وفي الفتح عبرة لأن السماوات كانت ملتئمة فإذا فسد التئامها وتخللتها مفاتح كان معه انخرام نظام العالم الفاني قال تعالى: {إذا السماء انشقت} إلى قوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 1 6].
فالتفتح والفتح سواء في المعنى المقصود، وهو تهويل {يوم الفصل} [النبأ: 17].
وفُرع على انفتاح السماء بفاء التعقيب {فكانت أبواباً} أي ذات أبواب.
فقوله: {أبواباً} تشبيه بليغ، أي كالأبواب، وحينئذ لا يبقى حاجز بين سكان السماوات وبين الناس كما تقدم في قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: 4].
والإِخبار عن السماء بأنها أبواب جرى على طريق المبالغة في الوصف بذات أبواب للدلالة على كثرة المفاتح فيها حتى كأنها هي أبواب وقريب منه قوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً} [القمر: 12] حيث أسند التفجير إلى لفظ الأرض، وجيء باسم العيون تمييزاً، وهذا يناسب معنى قراءة التشديد ويؤكده، ويقيد معنى قراءة التخفيف ويبينه.
و{كانت} بمعنى: صارت.
ومعنى الصيرورة من معاني (كَان) وأخواتها الأربع وهي: ظَلَّ، وبَاتَ، وأَمسى وأَصبح، وقرينة ذلك أنه مفرّع على. ونظيره قوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن: 37].
والأبواب: جمع باب، وهو الفُرجة التي يُدخل منها في حائل من سور أو جدار أو حجاب أو خيمة، وتقدم في قوله تعالى: {وغلقت الأبواب} في سورة يوسف (23) وقوله: {ادخلوا عليهم الباب} في سورة العقود (23).
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)}
التسيير: جعل الشيء سائراً، أي ماشياً.
وأطلق هنا على النقل من المكان أي نقلت الجبال وقلعت من مقارّها بسرعة بزلازل أو نحوها كما دل عليه قوله تعالى: {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} [المزمل: 14]، حتى كأنها تسيّر من مكان إلى آخر وهو نقْل يصحبه تفتيت كما دل عليه تعقيبه بقوله: {فكانت سراباً} لأن ظاهر التعقيب أن لا تكون معه مهلة، أي فكانت كالسراب في أنها لا شيء.
والقول في بناء {سُيرت} للمجهول كالقول في {وفتحت السماء} [النبأ: 19].
وكذلك قوله: {فكانت سراباً} هو كقوله: {فكانت أبواباً} [النبأ: 19].
والسراب: ما يلوح في الصحاري مما يشبه الماءَ وليس بماء ولكنه حالة في الجو القريب تنشأ من تَراكُممِ أبخرة على سطح الأرض.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} في سورة النور (39).
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)}
يجوز أن تكون جملة {إن جهنم كانت مرصاداً} في موضع خبر ثان لـ: {إنّ} من قوله: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} [النبأ: 17] والتقدير: إن يوم الفصل إنَّ جهنم كانت مرصاداً فيه للطاغين، والعائد محذوف دل عليه قوله: {مرصاداً} أي مرصاداً فيه، أي في ذلك اليوم لأن معنى المرصاد مقترب من معنى الميقات إذ كلاهما محدد لجزاء الطاغين.
ودخول حرف (إنَّ) في خبر (إن) يفيد تأكيداً على التأكيد الذي أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله: {يوم الفصل} على حد قول جرير:
إنّ الخليفة إنَّ الله سربَله ** سِربال مُلْك به تُزجَى الخَواتِيم

ومنه قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن اللَّه يفصل بينهم يوم القيامة} كما تقدم في سورة الحج (17)، وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا به بقوله: {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} [النبأ: 18].
والتعبير ب {الطّاغين} إظهار في مقام الإِضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان لأن مقتضى الظاهر أن يقول: {لكم مئاباً}.
ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً عن جملة {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} [النبأ: 17] وما لحق بها لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلّب ماذا سيكون بعد تلك الأهوال فأجيب بمضمون {إن جهنم كانت مرصاداً} الآية.
وعليه فليس في قوله: {للطاغين} تخريج على خلاف مقتضى الظاهر.
وابتدئ بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل.
وجهنم: اسم لدار العذاب في الآخرة.
قيل: وهو اسم مُعرَّب فلعله معرب عن العبرانية أو عن لغة أخرى سامية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فحسبه جهنم ولبئس المهاد} في سورة البقرة (206).
والمرصاد: مكان الرصد، أي الرقابة، وهو بوزن مِفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل مثل مِضمار للموضع الذي تضُمَّر فيه الخيل، ومنهاج للموضع الذي ينهج منه.
والمعنى: أن جهنم موضع يرصد منه الموَكّلون بها، ويترقبون من يزجى إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يَأتيه من عدوّ.
ويجوز أن يكون مرصاد مصدراً على وزن المفعال، أي رصداً.
والإِخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد، أي لا تفلت أحدًّا ممن حق عليهم دخولها.
ويجوز أن يكون مرصاد زنة مبالغة للراصد الشديد الرصد مثل صفة مغيار ومعطار، وصفت به جهنم على طريقة الاستعارة ولم تلحقه (ها) التأنيث لأن جهنم شبهت بالواحد من الرصد بتحريك الصاد، وهو الواحد من الحرس الذي يقف بالمرصد إذ لا يكون الحارس إلا رجلاً.
ومتعلق: {مرصاداً} محذوف دل عليه قوله: {للطاغين مئاباً}.
والتقدير: مرصاداً للطاغين، وهذا أحسن لأن قرأئن السورة قِصارٌ فيحسن الوقف عند {مرصاداً} لتكون قرينة.
ولك أن تجعل {للطاغين} متعلقاً بـ: {مرصاداً} وتجعل متعلق {مئاباً} مقدراً دل عليه {للطاغين} فيكون كالتضمين في الشعر إذ كانت بقيةً لِمَا في القرينة الأولى في القرينة المُوالية فتكون القرينة طويلة.
ولو شئت أن تجعل {للطاغين} متنازعاً فيه بين {مرصاداً} أو {مئاباً} فلا مانع من ذلك معنىً.
وأقحم {كانت} دون أن يقال: إن جهنم مرصادٌ للدلالة على أن جعلها مرصاداً أمر مقدر لها كما تقدم في قوله: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} [النبأ: 17].
وفيه إيماء إلى سعة علم الله تعالى حيث أعدّ في أزله عقاباً للطّاغين.
و{مئاباً}: مكان الأوْب وهو الرجوع، أطلق على المقر والمسكن إطلاقاً أصله كناية ثم شاع استعماله فصار اسماً للموضع الذي يستقر به المرء.
ونصب {مئاباً} على الحال من {جهنم} أو على أنه خبر ثان لفعل {كانت} أو على أنه بدل اشتمال من {مرصاداً} لأن الرصد يشتمل على أشياء مقصودة منها أن يكونوا صائرين إلى جهنم.
و{للطاغين} متعلق بـ: {مئاباً} قدم عليه لإدخال الروع على المشركين الذين بشركهم طغوا على الله، وهذا أحسن كما علمت آنفاً.
ولك أن تجعله متعلقاً بـ: {مرصاداً} أو متنازعاً فيه بين {مرصاداً} و{مئاباً} كما علمت آنفاً.
والطغيان: تجاوز الحد في عدم الاكتراث بحق الغير والكِبْرُ، والتعريفُ فيه للعهد فالمراد به المشركون المخاطبون بقوله: {فتأتون أفواجاً} [النبأ: 18] فهو إظهار في مقام الإِضمار لقصد الإِيماء إلى سبب جعل جهنم لهم لأن الشرك أقصى الطغيان إذ المشركون بالله أعْرضوا عن عبادته ومتكبرون على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث إنفوا من قبول دعوته وهم المقصود من معظم ما في هذه السورة كما يصرح به قوله: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً} [النبأ: 27، 28].
هذا وأن المسلمين المستخفّين بحقوق الله، أو المعتدين على الناس بغير حق، واحتقاراً لا لمجرد غلبة الشهوة لهم حظ من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر.
واللابث: المقيم بالمكان.
وانتصب {لابثين} على الحال من الطاغين.
وقرأه الجمهور {لابثين} على صيغة جمع لابث.
وقرأه حمزة ورَوح عن يعقوب {لَبثين} على صيغة جَمْع (لَبثٍ) من أمثلة المبالغة مثل حَذِر على خلاف فيه، أو من الصفة المشبهة فتقتضي أن اللّبث شأنه كالذي يجثم في مكان لا ينفك عنه.
وأحقاب: جمع حُقُب بضمتين، وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة، وتقدم في قوله: {أو أمضي حقباً} في سورة الكهف (60).
وجمعه هنا مراد به الطول العظيم لأن أكثر استعمال الحُقُب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين، فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء.
وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يُحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدِّين في أعمالهم.
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26)}
هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً ثانية من {الطاغين} [النبأ: 22] أو حالاً أولى من الضمير في {لابثين} [النبأ: 23] وأن تكون خبراً ثالثاً: لـ: {كانت مرصاداً} [النبأ: 21].
وضمير {فيها} على هذه الوجوه عائد إلى {جهنم} [النبأ: 21].
ويجوز أن تكون صفة لـ: {أحقاباً} [النبأ: 23]، أي لا يذوقون في تلك الأحقاب برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً.
فضمير {فيها} على هذا الوجه عائد إلى الأحقاب.
وحقيقة الذوق: إدراك طعم الطعام والشراب.
ويطلق على الإِحساس بغير الطعوم إطلاقاً مجازياً.
وشاع في كلامهم، يقال: ذاق الألم، وعلى وجدان النفس كقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} [المائدة: 95].
وقد استعمل هنا في معنييه حيث نصب {برداً} و{شراباً}.
والبَرْد: ضد الحرّ، وهو تنفيس للذين عذابهم الحر، أي لا يغاثون بنسيم بارد، والبرد ألذُّ ما يطلبه المحرور.
وعن مجاهد والسدّي وأبي عبيدة ونفر قليل تفسير البَرْد بالنوم وأنشدوا شاهديْن غير واضحين، وأيًّا مَّا كان فحمل الآية عليه تكلف لا داعي إليه، وعطف {ولا شراباً} يناكده.
والشراب: ما يُشرب والمراد به الماء الذي يزيل العطش.
والحميم: الماء الشديد الحرارة.
والغساق: قرأه الجمهور بتخفيف السين: وقرأه حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين وهما لغتان فيه.
ومعناه الصديد الذي يسيل من جروح الحرق وهو المُهْل، وتقدما في سورة (ص).
واستثناء {حميماً وغساقاً} من {برداً} أو {شراباً} على طريقة اللف والنشر المرتب، وهو استثناء منقطع لأن الحميم ليس من جنس البرد في شيء إذ هو شديد الحرّ، ولأن الغساق ليس من جنس الشراب، إذ ليس المُهل من جنس الشراب.
والمعنى: يذوقون الحميم إذ يُراق على أجسادهم، والغَساق إذ يسيل على مواضع الحرق فيزيد ألمهم.
وصورة الاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده في الصورة.
و{جزاء} منصوب على الحال من ضمير {يذوقون}، أي حالة كون ذلك جزاء، أي مُجازًى به، فالحال هنا مصدر مؤول بمعنى الوصف وهو أبلغ من الوصف.
والوفاق: مصدر وَافق وهو مُؤول بالوصف، أي موافقاً للعمل الذي جوزوا عليه، وهو التكذيب بالبعث وتكذيبُ القرآن كما دل عليه التعليل بعده بقوله: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً} [النبأ: 27، 28].
فإن ذلك أصل إصرارهم على الكفر، وهما أصلان: أحدهما عدميّ وهو إنكار البعث، والآخر وجوديّ وهو نسبتهم الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن للكذب، فعوقبوا على الأصل العدمي بعقاب عدمي وهو حِرمانهم من البرد والشراب، وعلى الأصل الوجودي بجزاء وجودي وهو الحميم يراق على أجسادهم والغساق يمرّ على جراحهم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)}
موقع هذه الجملة موقع التعليل لجملة {إن جهنم كانت مرصاداً إلى قوله جزاء وفاقاً} [النبأ: 21 26]، ولذلك فصلت.
وضمير {إنهم} عائد إلى {الطاغين} [النبأ: 22].
وحرف (إنّ) للاهتمام بالخبر وليست لرد الإِنكار إذ لا يُنْكر أحد أنهم لا يرجون حساباً وأنهم مكذبون بالقرآن وشأن (إنّ) إذا قصد بها مجرد الاهتمام أن تكون قائمة مقام فاء التفريع مفيدة للتعليل، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32] وقوله: {إن البقر تشابه علينا} في سورة البقرة (70) فالجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة {فذوقوا} [النبأ: 30].
وقد علمت مناسبة جزائهم لجُرمهم عند قوله آنفاً: {جزاء وفاقاً} [النبأ: 26] مما يزيد وجه التعليل وضوحاً.
وقوله: {لا يرجون حساباً} نفي لرجائهم وقوع الجزاء.
والرجاء اشتهر في ترقب الأمر المحبوب، والحساب ليس خيراً لهم حتى يجعل نفي ترقبه من قبيل نفي الرجاء فكان الظاهر أن يعبر عن ترقبه بمادة التوقع الذي هو ترقب الأمر المكروه، فيَظهر أن وجه العدول عن التعبير بمادة التوقع إلى التعبير بمادة الرجاء أن الله لما أخبر عن جزاء الطاغين وعذابهم تلقى المسلمون ذلك بالمسرة وعلموا أنهم ناجون مما سيلقاه الطاغون فكانوا مترقبين يوم الحساب ترقب رجاء، فنفي رجاء يوم الحساب عن المشركين جامعٌ بصريحه معنى عدم إيمانهم بوقوعه، وبكنايته رجاء المؤمنين وقوعه بطريقة الكناية التعريضية تعريضاً بالمسلمين وهي أيضاً تلويحية لما في لازم مدلول الكلام من الخفاء.
ومن المفسرين من فسر {يرجون} بمعنى: يخافون، وهو تفسير بحاصل المعنى، وليس تفسيراً للَّفظ.
وفعل {كانوا} دال على أن انتفاء رجائهم الحساب وصف متمكن من نفوسهم وهم كائنون عليه، وليس المراد بفعل {كانوا} أنهم كانوا كذلك فانقضى لأن هذه الجملة إخبار عنهم في حين نزول الآية وهم في الدنيا وليست مما يقال لهم أو عنهم يوم القيامة.
وجيء بفعل {يرجون} مضارعاً للدلالة على استمرار انتفاء ما عبر عنه بالرجاء، وذلك لأنهم كلما أعيد لهم ذِكر يوم الحساب جدَّدوا إنكاره وكرروا شبهاتهم على نفي إمكانه لأنهم قالوا: {إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32].
والحساب: العدّ، أي عدّ الأعمال والتوقيفُ على جزائها، أي لا يرجون وقوع حساب على أعمال العباد يوم الحشر.
و{كذبوا} عطف على {لا يرجون}، أي وإنهم كذبوا بآياتنا، أي بآيات القرآن.
والمعنى: كذبوا ما اشتملت عليه الآيات من إثبات الوحدانية، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم
ولكون تكذيبهم بذلك قد استقر في نفوسهم ولم يترددوا فيه جيء في جانبه بالفعل الماضي لأنهم قالوا: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5].
وكِذَّاب: بكسر الكاف وتشديد الذال مصدر كذَّب.
والفِعَّال بكسر أوله وتشديد عينه مصدر فعَّل مثل التفعيل، ونظائره: القِصَّار مصدر قَصَّر، والقِضَّاء مصدر قَضَّى، والخِرَّاق مصدر خَرَّق المضاعف، والفِسَّار مصدر فَسَّر.
وعن الفراء أن أصل هذا المصدر من اللغة اليمنية، يريد: وتكلم به العرب، فقد أنشدوا لبعض بني كلاب:
لقد طال ما ثبّطَتني عن صحابتي ** وعن حِوجَ قِضَّاؤُها مِن شفائيا

وأُوثر هذا المصدر هنا دون تكذيب لمراعاة التماثل في فَواصل هذه السورة، فإنها على نحو ألف التأسيس في القوافي، والفواصل كالأسجاع ويحسن في الأسجاع ما يحسن في القوافي.
وفي (الكشاف): وفِعَّالُ فَعَّل كلِّه فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره.
وانتصب {كذاباً} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإِفادة شدة تكذيبهم بالآيات.
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)}
اعتراض بين الجُمل التي سيقت مساق التعليل وبين جملة {فذوقوا} [النبأ: 30] وفائدة هذا الاعتراض المبادرة بإعلامهم أن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فلا يدع شيئاً من سيئاتهم إلا يحاسبهم عليه مَا ذكر هنا وما لم يذكر؛ كأنه قيل: إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا، وفعلوا مما عدا ذلك وكل ذلك محصي عندنا.
ونصب {كلَّ} على المفعولية لـ: {أحصيناه} على طريقة الاشتغال بضميره.
والإحصاء: حساب الأشياء لضبط عددها، فالإحصاء كناية عن الضبط والتحصيل.
وانتصب {كتاباً} على المفعولية المطلقة لـ: {أحصيناه}.
والتقدير: إحصاء كتابة، فهو مصدر بمعنى الكتابة، وهو كناية عن شدة الضبط لأن الأمور المكتوبة مصونة عن النسيان والإغفال، فباعتبار كونه كناية عن الضبط جاء مفعولاً مطلقاً لـ: {أحصيناه}.
{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}
الفاء للتفريع والتسبب على جملة {إن جهنم كانت مرصاداً} [النبأ: 21] وما اتصل بها، ولمَّا غُيّر أسلوب الخبر إلى الخطاب بعد أن كان جارياً بطريق الغيبة، ولم يكن مضمونُ الخبر مما يجري في الدنيا فيُظن أنه خطاب تهديد للمشركين تعيّن أن يكون المفرع قولاً محذوفاً دلّ عليه {ذوقوا} الذي لا يقال إلا يوم الجزاء، فالتقدير: فيقال لهم ذوقوا إلى آخره، ولهذا فليس في ضمير الخطاب التفات فالمفرع بالفاء هو فعل القول المحذوف.
والأمر في {ذوقوا} مستعمل في التوبيخ والتقريع.
وفُرع على {فذوقوا} ما يزيد تنكيدهم وتحسيرهم بإعلامهم بأن الله سيزيدهم عذاباً فوق ما هم فيه.
والزيادة: ضمّ شيء إلى غيره من جنس واحد أو غرض واحد، قال تعالى: {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [التوبة: 125] وقال: {ولا تزد الظالمين إلا تباراً} [نوح: 28]، أي لا تزدهم على ما هم فيه من المساوي إلا الإِهلاك.
فالزيادة المنفية في قوله: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} يجوز أن تكون زيادة نوع آخر من عذاب يكون حاصلاً لهم كما في قوله تعالى: {زدناهم عذاباً فوق العذاب} [النحل: 88].
ويجوز أن تكون زيادة من نوع ما هم فيه من العذاب بتكريره في المستقبل.
والمعنى: فسنزيدكم عذاباً زيادة مستمرة في أزمنة المستقبل، فصيغ التعبير عن هذا المعنى بهذا التركيب الدقيق، إذ ابتدئ بنفي الزيادة بحرف تأبيد النفي وأردف الاستثناء المقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى فصارت دلالة الاستثناء على معنى: سنزيدكم عذاباً مؤبداً.
وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو أسلوب طريف من التأكيد إذ ليس فيه إعادة لفظ فإن زيادة العذاب تأكيد للعذاب الحاصل.
ولما كان المقصود الوعيد بزيادة العذاب في المستقبل جيء في أسلوب نفيه بحرف نفي المستقبل، وهو (لن) المفيد تأكيد النسبة المنفيةِ وهي ما دلّ عليه مجموع النفي والاستثناء، فإن قيد تأبيد نفي الزيادة الذي يفيده حرف (لن) في جانب المستثنى منه يسري إلى إثبات زيادة العذاب في جانب المستثنى، فيكون معنى جملة الاستثناء: سنزيدكم عذاباً أبداً، وهو معنى الخلود في العذاب.
وفي هذا الأسلوب ابتداءٌ مطمِعٌ بانتهاء مُؤْيِسسٍ وذلك أشد حزناً وغماً بما يوهمهم أن ما ألقوا فيه هو منتهى التعذيب حتى إذا ولج ذلك أسماعَهم فحزنوا له، أُتبع بأنهم ينتظرهم عذاب آخر أشدّ، فكان ذلك حزناً فوق حزن، فهذا منوال هذا النظم وهو مؤذن بشدة الغضب.
وعن عبد الله بن عَمرو بن العاص وأبي برزة الأسلمي وأبي هريرة: أن هذه الآية أشدّ ما نزل في أهل النار، وقد أسند هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عن أبي بَرزة الأسلمي.
قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشدّ آية في كتاب الله على أهل النار؟ فقال: قول الله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}» وفي سنده جَسْر بن فرقد وهو ضعيف جدًّا.
وفي (ابن عطية): أن أبا هريرة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن عطية سنده، وتعدد طُرقه يكسبه قوة. اهـ.